الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
هذا الخط من حدّ باب الكافوري في الغرب إلى باب سعادة وبه الآن صفان من الأملاك أحدهما مشرف على الخليج والآخر مشرف على الشارع المسلوك فيه منا باب القنطرة إلى باب سعادة ويقال لهذا الشارع بين السورين تسمية للعامة بها فاشتهر بذلك وكان في القديم بهذا الخط البستان الكافوري يشرف عليه بحده الغربي ثمة مناظر اللؤلؤة وقد بقيت دار الذهب وموضعها الآن دار تعرف بدار بهادر الأعسر وعلى بابها بئر يستقي منها الماء في حوض منه الدواب ويجاورها قبو معقود يعرف بقبو الذهب وهو من بقية مناظر دار الذهب ويحدّ دار الذهب منظرة الغزالة وهي بجوار قنطرة الموسكي وقد بُني في مكانها ربع يعرف إلى اليوم بربع غزالة ودار ابن قرفة وقد صار موضعها جامع ابن المغربي وحمام ابن قرفة وبقي منها البئر التي يستقي منها إلى اليوم بحمام السلطان وعدّة دور كلها فيما يلي شقة القاهرة من صف باب الخوخة وكان ما بين المناظر والخليج براحا ولم يكن شيء من هذه العمائر التي بحافة الخليج اليوم البتة وكان الحاكم بأمر الله في سنة إحدى وأربعمائة منع من الركوب في المراكب بالخليج وسدّ أبواب القاهرة التي تلي الخليج وأبواب الدور التي هناك والطاقات المطلة عليها على ما حكاه المسبحيّ. وقال ابن المأمون في حوادث سنة ستة عشرة وخمسمائة ولما وقع الاهتمام بسكن اللؤلؤة والمقام بها مدّة النيل على الحكم الأوّل يعني قبل أيام أمير الجيوش بدر وابنه الأفضل وإزالة ما لم تكن العادة جارية عليه من مضايقة اللؤلؤة بالبناء وأنها صارت حارات تعرف بالفرحية والسوادان وغيرهما أمر حسان الملك متولي بابه بإحضار عرفاء الفرحية والإنكار عليم في تجاسرهم على ما استجدّوه وأقدموا عليه فاعتذروا بكثرة الرجال وضيق الأمكنة عليهم فبنوا لهم قبابًا يسيرةً فتقدّم يعني أمر الوزير المأمون إلى متولي الباب الإنعام عليهم وعلى جميع من بنى في هذه الحارة بثلاثة آلاف درهم وأن يقسم بينهم بالسوية ويأمرهم بنقل قسمهم وأن يبنو لهم حارة قبالة بستان الوزير يعني ابن المغربيّ خارج الباب الجديد من الشارع خارج باب زويلة. قال: وتحوّل الخليفة إلى اللؤلؤة بحاشيته وأطلقت التوسعة في كل يوم لما يخص الخاص والجهات والأستاذين من جميع الأصناف وانضاف إليها ما يطلق كل ليلة عينًا وورقًا وأطعمة للبائتين بالنوبة برسم الحرس بالنهار والسهر في طول الليل من باب قنطرة بهادر إلى مسجد الليمونة من البرين من صبيان الخاص والركاب والرهجية والسودان والحجاب كل طائفة بنقيبها والعرض من متولي الباب واقع بالعدة في طرفي كل ليلة ولا يمكن بعضهم بعضًا من المنام والرهجية تخدم على الدوام. خط الكافوري هذا الخط كان بستانًا من قبل بناء القاهرة وتملك الدولة الفاطمية لديار مصر أنشأه الأمير أبو بكر محمد بن طفج بن جف الملقب بالإخشيد وكان بجانبه ميدان فيه الخيول وله أبواب من حديد فلما قدم جوهر القائد إلى مصر جعل هذا البستان من داخل القاهرة وعرف ببستان كافور في الدولة الفاطمية البستان الكافوري ثم اختط مساكن بعد ذلك. قال ابن زولاق في كتاب سيرة الأخشيد: وَلِسَتٍ خلون من شوال سنة ثلاثين وثلثمائة سار الأخشيد إلى الشام في عساكره واستخل أخاه أبا المظفر بن طفج. قال: وكان يكره سفك الماء ولقد شرع في الخروج إلى الشام في آخر سفراته وسار العسكر وكان نازلًا في بستانه في موضع القاهرة اليوم فركب للمسير فساعة خرج من باب البستان اعترضه شيخ يعرف بمسعود الصابوني يتظلَّم إليه فنظر له فتطير به وقال: خذوه ابطحوه فبُطِحَ وضُرب خمس عشرة مقرعة وهو ساكت. فقال الأخشيد: هوذا يتشاطر. فقال له كافور: قد مات. فانزعج واستقال سفرته وعاد لبستانه وأحضر أهل الرجل واستحلهم وأطلق لهم ثلاثمائة دينار وحُمل الرجل إلى منزله ميتًا وكانت جنازته عظيمة وسافر الأخشيد فلم يرجع إلى مصر ومات بدمشق. وقال في كتاب تتمة كتاب أمراء مصر للكندي: وكان كافور الإخشيدي امير مصر يواصل الركوب إلى الميدان وإلى بستانه في يوم الجمعة ويوم الأحد ويوم الثلاثاء قال: وفي غد هذا اليوم يعني يوم الثلاثاء مات الأستاذ كافور الإخشيدي لعشرٍ بقين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة ويوم مات الأستاذ كافور الإخشيدي خرج الغلمان والجند إلى المنظرة وخرّبوا بستان كافور ونهبوا دوابه وطلبوا مال البيعة. وقال ابن عبد الظاهر: البستان الكافوري هو الذي كان بستانًا لكافور الإخشيدي وكان كثيرًا ما يتنزه به وبنيت القاهرة عنده ولم يزل إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة فاختطت البحرية والعزيزية به اصطبلات وأزيلت أشجاره. قال: ولعمري إنّ خرابه كان بحق فإنه كان عرف بالحشيشة التي يتناولها الفقراء والتي تطلع به يضرب بها المثل في الحسن. قال شاعرهم نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن علي الينبعي لنفسه: ربَّ ليلٍ قطعته ونديمي شاهدي هو مسمعي وسميري مجلسي مسجد وشربي من خض راء تزهو بحسنٍ لونٍ نضيرِ قال لي صاحبي وقد فاح منها نشرها مزريًا بنشرِ العبيرِ أمن المسك قلتُ ليست من المس كِ ولكنَّها من الكافوري وقال الحافظ جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد بن محمد الأسديّ الدمشقيّ المعروف باليغموري: أنشدني الإمام العالم المعروف بجموع الفضائل زين الدين أبو عبد الله وخضراء كافورية بات فعلها بألبابنا فِعْل الرحيق المعتَّقِ إذ نفحتنا من شذاها بنفحةٍ تدبُّ لنا في كل عضو ومنطقِ غنيتُ بها عن شربِ خمرٍ معتَّقٍ وبالدلق عن لبس الجديد المزوّقِ وأنشدني الحافظ جلال الدين أبو المعز ابن أبي الحسن بن أحمد بن الصائغ المغربيّ لنفسه: عاطني خضراء كافورية يكتب الخمر لها من جندها أسكرتنا فوق ما تسكرنا وربحنا أنفسا من حدّها وأنشدني لنفسه: قم عاطني خشراء كافورية قامت مقام سلافة الصهباءِ يغدوا الفقير إذا تناول درهمًا منها له تيه على الأمراءِ وتراهُ من أقوى الورى فإذا خلا منها عددناهُ مِنَ الضعفاءِ وأنشدني من لفظه لنفسه أيضًا: عاطيتُ من أهوى وقد زارني كالبدر وافى ليلة البدرِ والبحرث قد مدَّ على متنِهِ شعاعه جسرًا من التبرِ فراح نشوانًا بها غافلًا لا يعرف الحلوَ من المرِّ قال وقد نال بها امرهُ فبات مردودًا إلى أمري قتلتني قلتُ نعم سيدي قتلينِ بالسُكْرِ وبالبَحرِ قال: وأمر السلطان الملك الصالح يعني نجم الدين أيوب الأمير جمال الدين أبا الفتح موسى بن يغمور أن يمنع من يزرع في الكافوري من الحشيشة شيئًا فدخل ذات يوم فرأى فيه منها شيئًا كثيرًا فأمر بأن يُجمع فجُمع وأُحرِق. فأنشدني في الواقعة الشيخ الأديب الفاضل شرف الدين أبو العباس أحمد بن يوسف لنفسه وذلك في ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين وستمائة: صِرف الزمان وحادث المقدور تركا نكير الخطب غير نكيرِ ما سالما حيًا ولا ميتًا ول طودًا سما بل دكدكا بالطور لهفي وهل يجدي التهلفُ في ذُرى طربِ الغنيّ وأنسِ كلِّ فقيرِ أختُ المذلةِ لارتكاب محرَّمٍ قطبُ السرور بأيسر الميسورِ جمعت محاسن ما اجتمعن لغيرها من كل شيء كان من المعمورِ منها طعامٌ والشرابُ كلاهما والبقلُ والريحانُ وقتَ حضورِ كلا ونكهة خمرة هي شاهد عدل على حدٍّ وجلد ظهورِ أسفًا لدهر غالها ولربما ظلّ الكريمُ بذلةِ الماسورِ جَمعت له الأشهادُ كرمًا أخضرًا كعروسةٍ تُجلى بخضرِ حريرِ زفوا لها نارًا فخُلنا جنةً برزت لنا قدر زوِّجتْ بالنورِ ثم اتكست منها غلالة صفرةٍ في خضرةٍ مقرونةٍ بزفيرِ فكأنها لهبُ اللظى في خضرةٍ منها وطرفِ رمادها المنثورِ جارى النضار على مذابِ زمرُّدٍ تركا فتيتَ المسكِ في الكافوري لله دركِ حية أو ميتة من منظرٍ بهج بغير نظيرِ أوذيت غير ذميمة فسقى الحيا تربًا تضمَّن منكِ ذوبِ عبيرِ عندي لذكركِ ما بقيتُ مخلدًا سحُ الدموع ونفثةِ المصدورِ كافور الإخشيدي كان عبدًا أسود خصيًا مثقوب الشفة السفلى بطينًا قبيح القدمين ثقيل البدن جُلب إلى مصر وعمره عشر سنين فما فوقها في سنة عشر وثلثمائة فلما دخل إلى مصر تمنى أن يكون أميرها فباعه الذي جلبه لمحمد بن هاشم أحد المتقبلين للضياع فباعه لابن عباس الكاتب فمرّ يومًا بمصر على مندِّم فنظر له في نجومه وقال له: أنت تصير إلى رجل جليل القدر وتبلغ معه مبلغًا عظيمًا فدفع إليه درهمين لم يكن معه سواهما فرمى بهما إليه وقال: أُبشِّرُك بهذه البشارة وتعطيني درهمين ثم قال له: وأزيدك أنت تملك هذه البلد وأكثر منه فاذكرني. واتفق أنّ ابن عباس الكتاب أرسله بهدية يومًا إلى الأمير أبي بكر محمد بن طفج الأخشيد وهو يومئذٍ أحد قوّاد تكين أمير مصر فأخذ كافورًا وردّ الهدية فترقّى عنده في الخدم حتى صار من أخص خدمه. ولما مات الأخشيد بدمشق ضبط كافور الأمور ودارى الناس ووعدهم إلى أن سكنت الدهماء بعد أن اضطرب الناس وجهزة أستاذه وحمله إلى بيت المقدس وسار إلى مصر فدخلها وقد انعقد الأمر بعد الإخشيد لابنه أبي القاسم أونوجور فلم يكن بأسرع من ورود الخبر مندمشق بأنّ سيف الدولة عليّ بن حمدان أخذها وسار إلى الرملة فخرج كافور بالعساكر وضرب الدباديب وهي الطبول على باب مضربه في وقت كل صلاة وسار فظفر وغنم ثم قدم إلى مصر وقد عظم أمره فقام بخلافة أونوجور فخاطبه القوّاد بالأستاذ وصار القوّاد يجتمعون عنده في دار فيخلع عليهم ويحملهم ويعطيهم حتى أنه وقع لجانك أحد القوّاد الإخشيدية في يوم بأربعة عشر ألف دينار فما زال عبدًا له حتى مات وانبسطت يده في الدولة فعزل وولى وأعطى وحرم ودعيَ له على المنابر كلها إلاّ منبر مصر والرملة وطبرية ثم دعي له بها في سنة أربعين وثلثمائة وصار يجلس للمظالم في كل سبت ويحضر مجلسه القضاة والوزراء والشهود ووجوه البلد فوقع بينه وبين الأمير أونوجور وتحرَّرَ كلٌ منهما من الآخر وقويت الوحشة بينهما وافترق الجند فصار مع كل واحد طائفة واتفق موت أونوجور في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وثلثمائة ويقال أنه سمّه. فأقام أخاه أبو الحسن عليّ بن الإخشيد من بعده واستبدّ بالأمر دونه وأطلق له في كل سنة أربعمائة ألف دينار واستقل بسائر أحوال مصر والشام ففسد ما بينه وبين الأمير أبي الحسن عليّ فضيّق عليه كافور ومنع أن يدخل عليه أحد فاعتل بعلة أخيه ومات وقد طالت به في محرّم سنة خمس وخمسين وثلثمائة. فبقيت مصر بغير أمير أيامًا لا يدعى فيها سوى للخليفة المطيع فقط وكافور يدبر أمر مصر والشام في الخراج والرجال فلما كان لأربع بقين من المحرّم المذكور أخرج كافور كتابًا من الخليفة المطيع بتقليده بعد عليّ بن الأخشيد فلم يغير لقبه بالأستاذ ودعي له على المنبر بعد الخليفة وكان له في أيامه قصص عظام وقدم عسكر من المعز لدين الله أبي تميم معدّ من المغرب إلى الواحات فجهَّز إليه جيشًا أخرجوا العسكر وقتلوا منهم وصارت الطبول تضرب على بابه خمس مرّات في اليوم والليلة وعدّتها مائة طبلة من نحاس. وقمت عليه دعاة المعز لدين الله من بلاد المغرب يدعونه إلى طاعته فلاطفهم وكان أكثر الإخشيدية والكافورية وسائر الأولياء والكتّاب قد أُخذت عليهم البيعة للمعز وقصر مدّ النيل في أيامه. فلم يبلغ تلك السنة سوى أثني عشر ذراعًا وأصابع فاشتدّ الغلاء وفحش الموت في الناس حتى عجزوا عن تكفينهم ومواراتهم وأرجف بمسير القرامطة إلى الشام وبدت غلمانه تتنكر له وكانوا ألفًا وسبعين غلامًا تركيًا سوى الروم والمولدين فمات لعشر بقين من جمادى الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمائة عن ستين سنة فوجد له من العين سبعمائة ألف دينار ومن الورق والحلي والجوهر والعنبر والطيب والثياب والآلات والفرش والخيام والعبيد والجواري والدواب ما قُوّم بستمائة ألف ألف دينار وكانت مدّة تدبيره أمر مصر والشام والحرمين إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يومًا منها منفردًا بالولاية بعد أولاد أُستاذه سنتان وأربعة أشهر وتسعة أيام ومات عن غير وصية ولا صدقة ولا مأثرة يذكر بها ودعي له على المنابر بالكنية التي كناه بها الخليفة وهي ألو المسك أربع عشرة جمعة وبعده اختلت مصر وكادت تدمر حتى قدمت جيوش المعز على يد القائد جوهر فصارت مصر دار خلافة ووجد على قبره مكتوب: يدوسُ قبركَ من أدنى الرجال وقد كانت أسُود الشرى تخشاك في الكثبِ ووجد أيضًا مكتوب: انظر إلى غير الأيام ما صنعت أفنت أُناسًا بها كانوا ومات فنيتْ دنياهم أضحكت أيامُ دولتهم حتى إذا فنيتْ ناحت لهم وبكتْ خط الخرشتف هذا الخط فيما بين حارة برجوان والكافوري ويُتوصل إليه من بين القصرين فيُدخل له من قبو يعرف بقبو الخرشتف وهو الذي كان يعرف قديمًا بباب التبانين ويُسلك من الخرشتف إلى خط باب سرّ المارستان وإلى حارة زويلة وكان موضع الخرشتف في أيام الخلفاء الفاطميين ميدانًا بجوار القصر الغربيّ والبستان الكافوريّ فلما زالت الدولة اختُطَّ وصار فيها عدّة مساكن وبه أيضًا سوق وإنما سُمِّيَ بالخرشتف لأنّ المعز أوّل من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الأزبال وغيرها. قال ابن عبد الظاهر: الحارة المعروفة بالخرشتف كانت قديمًا ميدانًا للخلفاء فلما ورد المعز بنوا به اصطبلات وكذلك القصر الغربيّ وقد كان النساء اللاتي أُخرجن من القصر يسكنَّ بالقصر النافعي فامتدّت الأيدي إلى طوبه وأخشابه وبيعت وتلاشى حاله وبني به وبالميدان اصطبلات ودويرات بالخرشتف فسمي بذلك ثم بنى به الأدر والطواحين وغيره وذلك بعد الستمائة وأكثر أراضي الميدان حكر للأدر القطبية. خط اصطبل القطبية هذا الخط أيضًا من جملة أراضي الميدان ولما انتقلت القاعة التي كانت سكن أخت الحاكم بأمر الله بعد زوال الدولة الفاطمية صارت إلى الملك المفضل فطب الدين أ مد بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب فاستقرّ بها هو وذريته فصار يقال لها الدار القطبية واتخذ هذا المكان اصطبلًا لهذه القاعة فعرف باصطبل القطبية ثم لما أخذ الملك المنصور قلاوون القاعة البطبية من مونسة خاتون المعروفة بدار إقبال ابنة الملك العادل أبي بكر ابن أيوب أخت المفضل قطب الدين أحمد المعروفة بخاتون الطبية وعملها المارستان المنصوري بنى في هذا الإصطبل المساكن وصارت من جملة الخطط المشهورة ويتوصل إليه من وسط سوق الخرشتف ويسلك فيه من آخره إلى المدرسة الناصرية والمدرسة الظاهرية المستجدّة وعمل على أوّله دربًا يغلق وهو خط عامر. خط باب سر المارستان هذا الخط يسلك إليه من الخرشتف ويصير السالك فيه إلى البندقانيين وبعض هذا الخط وهو جله ومعظمه من جملة اصطبل الجميزة الذي كان فيه خيول الدولة الفاطمية وقد تقدّم ذكره. وموضع باب سر المارستان المنصوري هو باب الساباط فلما زالت الدولة واختطُ الكافوري والخرشتف واصطبل القطبية صار هذا الخط واقعًا بين هذه الأخطاط ونسب إلى باب سر المارستان لأنه من هنالك وأدركتُ بعض هذه الخطة وهي خراب ثم أنشأ فيه القاضي جمال الدين محمود القيصري محتسب القاهرة في أيام ولايته. نظر المارستان في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة الطاحون العظيمة ذات الأحجار والفرن والربع علوه في المكان الخراب وجعل ذلك جاريًا في جملة أوقاف المارستان المنصوري. خط بين القصرين هذا الخط أعمر أخطاط القاهرة وأنزهها وقد كان في الدولة الفاطمية فضاءً كبيرًا وبراحًا واسعًا يقف فيه عشرة آلاف من العسكر ما بين فارس وراجل ويكون به طرادهم ووقوفهم للخدمة كما هو الحال اليوم في الرميلة تحت قلعة الجبل فلما انقضت أيام الدولة الفاطمية وخلت القصور من أهاليها ونزل بها أمراء الدولة الأيوبية وغيروا معالمها صار هذا الموضوع سوقًا مبتذلًا بعدما كان ملاذًا مبجلًا وقعد فيه الباعة بأصناف المأكولات من اللحمان المتنوّعة والحلاوات المصنعة والفاكهة وغيرها فصار منتزهًا تمر فيه أعيان الناس وأمثالهم في الليل مشاة لرؤية ما هناك من السرج والقناديل الخارجة عن الحدّ فيالكثرة ولرؤية ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين مما فيه لذة للحواس الخمس وكانت تعقد فيه عدّة حلق لقراءة السير والأخبار وإنشاد الأشعار والتفنن في أنواع اللعب واللهو فيصير مجمعًا لا يقدر قدره ولا يمكن حكاية وصفه وسأتلو عليك من أنباء ذلك ما لا تجده مجموعًا في كتاب. قال المسبّحي في حوادث جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين وثلثمائة: وفيه مُنِعض كل أحد ممن يركب مع المكاريين أن يدخل من باب القاهرة راكبًا ولا المكاريين أيضًا بحميرهم ولا يجلس أحد على باب الزهومة من التجار وغيرهم ولا يمشي أحد ملاصق القصر من باب الزهومة إلى أقصى باب الزمرّد ثم عفى عن المكاريين بعد ذلك وكتب لهم أمان قرىء. وقال ابن الطوبر: ويبيت خارج باب القصر كل ليلة خمسون فارسًا فإذا أُذِّنَ بالعشاء الآخرة داخل القاعة وصلّى الإمام الراتب بها بالمقيمين فيها من الأستاذين وغيرهم وقف على باب القصر أمير يقال له سنان الدولة ابن الكركندي فإذا علم بفراغ الصلاة أمر بضرب النوبات من الطبل والبوق وتوابعهما من عدّة وافرة بطريق مستحسنة ساعة زمانية ثم يخرج بعد ذلك أستاذ برسم هذه الخدمة فيقول: أمير المؤمنين يردّ علي سنان الدولة السلام فيصقع ويغرس حربة على الباب ثم يرفعها بيده فإذا رفعها أغلق الباب وسار إلى حوالي القصر سبع دورات فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البياتين والفرّاشين المقدّم ذكرهم وأفضى المؤذنون إلى خزانتهم هناك ورميت السلسلة عند المضيق آخر بين القصرين من جانب السيوفيين فينقطع المار من ذلك المكان إلى أن تضرب النوبة سحرًا قريب الفجر فتنصرف الناس من هناك بارتفاع السلسلة. انتهى. وأخبرني المشيخة أنه ما زال الرسم إلى قريب أنه لا يمرّ بشارع بين القصرين حمل تبن ولا حمل حطب ولا يستطيع أحد أن يسوق فرسًا فيه فإن ساق أحد أنكر عليه وخرق به. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: والمكان الذي كان يعرف في القاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطانيّ لأنّ هناك ساحة متسعة للعسكر المتفرّجين ما بين القصرين ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية. وقال ياقوت: وبين القصرين كان ببغداد بباب الطاق يراد به قصر أسماء بنت المنصور وقصر عبد الله بن المهدي وكان يقال لهما أيضًا بين القصرين. وبين القصرين بمصر والقاهرة وهما قصران متقابلان بينهما طريق العامّة والسوق عمرهما ملوك مصر المغاربة المُتَعَلْوِنة الذين ادَعوا أنهم علويَة. وحدّثني الفاضل الرئيس تقيّ الدين عبد الوهاب ناظر الخواص الشريفة ابن الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن أبي شاكر أنه كان يشتري في كل ليلة من بين القصرين بعد العشاء الآخرة برسم الوزير الصاحب فخر الدين عبد الله بن خصيب من الدجاج المطجن والقطا وفراخ الحمام والعصافير المقلاة بمبلغ مائتي درهم وخمسين درهمًا فضة يكون عنها يومئذٍ نحو من اثني عشر مثقالًا من الذهب وأنَّ هذا كان دأبه في كل ليلة ولا يكاد مثل هذا من كثرته لرخاء الأسعار يؤثر نقصه فيما كان هنالك من هذا الصنف لعظم ما كان يوضع في بين القصرين من هذا النوع وغيره ولقد أدركنا فيكل ليلة من بعد العصر يجلس الباعة بصنف لحمان الطيور التي تقلى صفًا من باب المدرسة الكاملية إلى باب المدرسة الناصرية وذلك قبل بناء المجرسة الظاهرية المستجدّة فيباع لحم الدجاج المطجن ولحم الأوز المطجن كلُّ رطل بدرهم وتارة بدرهم وربع وتباع العصافير المقوّة كل عصوفر بفلس حسابًا عن كل أربعة وعشرين بدرهم والمشيخة تقول إنّا حينئذٍ في غلاء لكثرة ما تصف من سعة الأرزاق ورخاء الأسعار في الزمن الذي أدركوه قبل الفناء الكبير ومع ذلك فلقد وقع في سنة ست وثمانين شيء لا يكاد يصدّقه اليوم من لم يدرك ذلك الزمان وهو أنّه: كان لنا من جيراننا بحارة برجوان شخص يعاني الجندية ويركب الخيل فبلغني عن غلامه أنّه خرج في ليلة من ليالي رمضان وكان رمضان إذ ذاك في فصل الصيف ومعه رقيق له من غلمان الخيل وأنهما سَرَقا من شارع بين القصرين وما قرب منه بضعًا وعشرين بطيخة خضراء وبضعًا وثلاثين شقفة جبن والشقفة أبدًا من نصف رطل إلى رطل فما منّا إلاّ مَنْ تعجب من ذلك وكيف تهيأ لاثنين فعل هذا وحَمْلُ هذا القدر يحتج إلى دابتين إلى أن قدّر الله تعالى لي بعد ذلك أن اجتمعت بأحد الغلامين المذكورين وسألته عن ذكل فاعترف لي به قلت: صف لي كيف عملتما فذكر أنهما كانا يقفان على حانوت الجبان أو مقعد البطيخيّ وكان غذ ذاك يعمل من البطيخ في بين القصرين مرصّات كثيرة جدًا في كل مرصّ ما شاءالله من البطيخ قال: إذا وقفنا قلب أحدنا بطيخة وقلب الآخر أخرى فلشدّة ازدحام الناس يتناول أحدنا بطيخته بخفة يد وصناعة ويقوم فلا يُفطن به. أو يقلب أحدنا ورفيقه قائم من ورائه والبياع مشغول البال لكثرة ما عليه من المشترين وما في ذلك الشارع من غزير الناس فيحذفها من تحته وهو جالس القرفصا فإذا أحس بها رفيقه تناولها ومرّ. وكذلك كان فعلهم من الجبانين وكانوا كثيرًا فانظر - أعزك الله - إلى بضاعة يُسرق منها مثل هذا القدر ولا يفطن به من كثرة ما هنالك من البضائع ولعظم الخلق. ولقد حدثني غير واحد ممن قدم مع قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركيّ أنذه لما قدموا من الكرك في سنة اثنين وتسعين وسبعمائة كادوا يُذهلون عند مشاهدة بين القصرين. وقال لي ابنه محب الدين محمد: أوّل ما شاهدّت بين القصري حسبت أنّ زفة أو جنازة كبيرة تمرّ من هنالك فلما لم ينقطع المارة سألت ما بال الناس مجتمعين للمرور من ههنا فقيل لي: هذا دأب البلد دائمًا ولقد كنا نسمع أنّ من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشي بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضي وطره وهما ماشيان من غير أن يدركهما أحد لشدّة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام غير أني أدركهما أحد لشدّة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه. وما برحت أجد من الازدحام مشقة حتى أفادني بعض من أدركت أنَّ من الرأي في المشي أن يأخذ الإنسان في مشيه نحو شماله فإنه لا يجد من المشقة كما يجد غيره من الزحام فاعتبرت ذلك آلاف مرات في عدّة سنين فما أخطأ معي ولقد كنت أكثر من تأمْل المارة بين القصرين فإذا هم صفان كل صف يمرَ من صوب شماله كالسيل إذا اندفع وعلَّلَ هذا الذي أفادني أنّ القلب من يسار كل أحد والناس تميل إلى جهة قلوبهم فلذلك صار مشيهم من صوب شمائلهم وكذا صح لي مع طول الأعتيار. ولما حدثت هذه المحن بعد سنة ست وثمانين وثمانمائة تلاشى أمر بين القصرين وذهب ما هناك ما أخوفني أن يكون أمر القاهرة كما قيل: هذهِ بلدةٌ قضى الله يا صا - ح عليها كما ترى بالخرابِ فَقِفِ العيسِ وقفةً وابك من ك - نَ بها من شيوخِها والشبابِ واعتبر إن دخلتَ يومًا إليها فهي كانت منازلُ الأحبابِ خط الخشيبة هذا الخط يتوصل إليه من وسط سوق باب الزهومة ويُسلك فيه إلى الحارة العدوية حيث فندق الرخام برحبة بيبرس وإلى درب شمس الدولة وقيل له خط الخشيبة من أجل أنْ الخليفة الظافر لما قَتَله نصر بن عباس وبنى على مكانه الذي دفنه فيه المشجد الذي يعرف اليوم بمسجد الخلعيين ويعرف أيضًا بمسجد الخلفاء نصبت هناك خشبة حتى لا يمرّ أحد من هذا الموضع راكبًا فُعرف بخُشيبة تصغير خشبة وما زالت هناك حتى زالت الدولة الفاطمية وقام السلطان صلاح الدين بسلطنة مصر فأزال الخُشيبة وعُرف هذا الخط بها إلى اليوم ويقال له خط حمام خشيبة من أجل الحمام التي هناك. ولمقتل الظافر خبر يحسن ذكره هنا. مقتل الخليفة الظافر وكان من خبر الظافر أ ه لما مات الخليفة الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر في ليلة الخميس لخمسٍ خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بويع ابنه أبو المنصور إسماعيل ولقب بالظافر محمد بن مصال فلم يرض الأمير المظفر عليّ بن السلار والي الإسكندرية والبحيرة يومئذٍ بوزارة ابن مصال وحشد وسار إلى القاهرة ففرّ ابن مصال واستقرّ ابن السلار في الوزارة وتلقَّب بالعادل فجهز العساكر لمحاربة ابن مصال فحاربته وقتل فقوي واستوحش منه الظافر وخاف منه ابن السلار واحترز منه على نفسه وجعل له رجالًا يمشون في ركابه بالزرد والخود وعددهم ستمائة رجل بالنوبة ونقل جلوس الظافر من القاعة إلى الإيوان في البراح والسعة حتى إذا دخل للخدمة يكون أصحاب الزرد معه ثم تأكدت النفرة بينهما فقبض على صبيان الخاص وقتل أكثرهم وفرّق باقيهم وكانوا خمسمائة رجل وما زال الأمر على ذلك إلى أن قتله ربيبه عباس بن تميم بيد ولده نصر واستقرّ بعده في وزارة الظافر وكان بين ناصر الدين نصر بن عباس الوزير وبين الظافر مودّة أكيدة ومخالطة بحيث كان الظافر يشتغل به عن كل أحد ويخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة السيوفية فخاف عباس من جرأة ابنه وخشي أن يحمله الظافر على قتله فيقتله كما قتل الوزير علي بن السلار زوج جدّته أمّ عباس فنهاه عن ذلك وأحلف في تأنيبه وأفرط في لومه لأنّ الأمراء كانوا مستوحشين من عباس وكارهين منه تقريبه أسامة بن منقد لما علموه من أنه هو الذي حسَّنّ لعباس قتل ابن السلار كما هو مذكور في خبره وهمّوا بقتله تحدّثوا مع الخليفة الظافر في ذلك فبلغ أسامة ما هم عليه وكان غريبًا من الدولة فأخذ يغري الوزير عباس بن تميم بابنه نصر ويبالغ في تقبيح مخالطته للظافر إلى أنْ قال لي مرة: كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك من أنّ الخليفة يفعل به ما يُفعل بالنساء فأثَر ذلك في قلب عباس واتفق أنّ الظافر أنعم بمدينة قليوب على نصر بن عباس فأثَّر ذلك في قلب عباس واتفق أنّ الظافر أنعم بمدينة قليوب على نصر بن عباس فلما حضر إلى أبيه وأعلمه بذلك وأسامة حاضر فقال له: يا ناصر الدين ما هي بمهرك غالية يعرّض له بالفحش فأخذ عباس من ذلك ما أخذه وتحدّث مع أسامة لثقته به في كيفية الخلاص من هذا فأشار عليه بقتل الظافر إذا جاء إلى دار نصر على عادته في الليل فأمره بمفاوضة ابنه نصر في ذلك فاغتنمها أسامة ومازال بنصر يشنع عليه ويحرّضه على قتل الظافر حتى وعده بذلك. فلما كان ليلة الخميس آخر المحرّم من سنة تسع وأربعين وخمسمائة خرج الظافر من قصره متنكرًا ومعه خادمان كما هي عادته ومشى إلى جار نصر بن عباس فإذا به قد أعدّ له قومًا فعندما صار في داخل داره وثبوا عليه وقبّلوه هو وأحد الخادمين وتوارى عنهم الخادم الآخر ولحق بعد ذلك بالقصر. ثم دفنوا الظافر والخادم تحت الأرض في الموضع الذي فيه الآن المسجد كان سنَّهُ يوم قتل إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر ونصف منها في الخلافة بعد أبيه أربع سنين وثمانية أشهر تنقص خمسة أيام وكان محكومًا عليه في خلافته. وفي أيامه ملك الفرنج مدينة عسقلان وظهر الوهن في الدولة وكان كثير اللهو واللعب وهو الذي أنشأ الجامع المعروف بجامع الفاكهيين. وبلغ أهل القصر ما عمله نصر بن عباس من قتل الظافر فكاتبوا طلائع بن رزبك وكان على الأشمونين وبعثوا إليه بشعور النساء يستصرخون به على عباس وابنه فقدم بالجموع وفرّ عباس وأسامة ونصر ودخل طلائع وعليه ثياب سود وأعلامه وبنوده كلها سود وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على الرماح فكان فألًا عجيبًا فإنه بعد خمس عشرة سنة دخلت أعلام بني العباس السود من بغداد إلى القاهرة لما مات العاضد واستبد صلاح الدين بملك ديار مصر وكان أوّل ما بدأ به طلائع أن مضى ماشيًا إلى دار نصر وأخرج الظافر والخادم وغسلهما وكفنهما وحمل الظافر في تابوت مغشّى ومشى طلائع حافيًا والناس كلهم حتى وصلوا إلى القصر فصلّى عليه ابنه الخليفة الفائز ودفن في تربة القصر.
|